aفي العام الماضي، وخلال اجتماع لوزراء الثقافة العرب في العاصمة العمانية مسقط، تشجع الدكتور عطا الله أبو السبح، وزير الثقافة في الحكومة الفلسطينية الحماسية آنذاك، وطلب الموافقة على اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009، ولم يكن أمام وزراء الثقافة العرب إلا الموافقة على الطلب، خصوصا ان الأمر يتعلق بالقدس، لما لها من مكانة معنوية كبيرة في الوجدانين العربي والإسلامي. لكن ما يحدث اليوم يؤكد أن المسألة صارت ورطة اكثر منها مخرجاً سعيداً.
لا يعرف بماذا كان يفكر أبو السبح، الذي يملك روحا مرحة وقدرة على إثارة البهجة، رغم سيماء وجهه المتجهمة، وهو يقدم طلبه أمام الوزراء العرب، وهل كان لديه تصور حول كيفية إحياء التظاهرة الثقافية الخاصة بالقدس عام 2009، خصوصا وهو يعرف صعوبة التحديات ليس فقط المتعلقة بالاحتلال، ولكن التحديات التي كانت تواجه وزارته وحكومته، إلى درجة انه وكما قال موظفون كبار في وزارة الثقافة لـ "الشرق الأوسط" بأنه "كان من الناحية الفعلية، وزيرا للثقافة على قطاع غزة فقط، حيث مكان إقامته، وفي المرة الوحيدة التي حاول فيها توسيع مهامه إلى الضفة الغربية، أرسل كتابا إلى مكاتب وزارة الثقافة فيها، طلب فيه من مديري المكاتب مسك أيديهم عن الصرف، بسبب الحصار المفروض على الحكومة آنذاك"، وتطورت الأوضاع، إلى درجة أن الموظفين لم يتلقوا رواتبهم.
ولم تعط الظروف السياسية الفرصة لأبي السبح ليختبر ما أراده من "القدس عاصمة ثقافية"، حيث أطاحت به التقلبات السياسية، وجيء بوزير آخر مكانه، على طرف نقيض منه، هو أمين عام حزب الشعب (الشيوعي سابقا)، الذي اصبح وزيرا للثقافة فيما سمي حكومة الوحدة الوطنية. وفور توليه منصبه تحدث الوزير عن التحدي الذي يواجهه لإحياء التظاهرة في ظل الظروف التي تعاني منها القدس. وما لبث أن واجه هذا الوزير تحديا داخليا من أعضاء حزبه الصغير الذين استهجنوا جمعه بين المنصب الوزاري والأمانة العامة للحزب، مخالفا بذلك دستور الحزب، فانشغل في الرد عليهم ومحاولة إثبات أن دستور الحزب ليس نصوصا مقدسة، وانه قادر على أن يكون زعيما للحزب، ووزيرا للثقافة، ونائبا في المجلس التشريعي، وفي غمرة ذلك واجه تحديا حاسما، لم يكن في الحسبان، عندما أطاح الحسم العسكري الذي نفذته حماس في غزة بالحكومة، وتشكيل محمود عباس (أبو مازن) لحكومة طوارئ، طورها فيما بعد إلى حكومة لتسيير أعمال، ضم إليها وزير ثقافة من قطاع غزة هو الدكتور إبراهيم ابراش.
ومع اقتراب الموعد، وأمام سيف الوقت المشرع، كان هناك في ديوان أبو مازن، ما ذكره، بالموعد المحدد، فوضع ثقله في الموضوع، وأسس ما أطلق عليه (اللجنة الوطنية للتحضير لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية للعام 2009) بمرسوم رئاسي، وعين الدكتورة حنان عشراوي، رئيسة للجنة. ولم يكن اختيار عشراوي اعتباطيا، فبالإضافة إلى المزايا، التي يمكن أن يراها فيها البعض، لها ميزة هامة أخرى وهي حملها للهوية المقدسية، وهذا يعني أن بإمكانها الدخول إلى القدس بحرية نسبية ولا تحتاج إلى تصاريح من سلطات الاحتلال لذلك. وعين أبو مازن شخصية ثقافية لها مكانتها الفلسطينية والعربية والعالمية، هو الشاعر محمود درويش، عضوا في اللجنة، رغم انه هناك من رشحه ليكون رئيسا لها، لكن عدم حمل درويش لوثيقة تمكنه من الدخول إلى القدس والخروج منها بحرية، اذا لزم الأمر، حال دون ذلك على الأرجح.
وفي الأسبوع الماضي، دعا أبو مازن، أعضاء اللجنة إلى مقره في مدينة رام الله، لعقد الاجتماع الأول، وافتتح الاجتماع بكلمة فيها القليل من الثقافة والكثير من السياسة.
واعتبر أبو مازن، الذي أبرزت وسائل الإعلام الرسمية الفلسطينية حديثه أن "اختيار القدس لتكون العاصمة الثقافية لعام 2009 يدل على الاهتمام البالغ بمدينتنا المقدسة". وقال أبو مازن، الذي كان قد أنهى اجتماعا مع ايهود اولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي قبل ذلك بأيام "نحن نعرف أن القدس بحاجة إلى أمور كثيرة، وهي تهود هذه الأيام، وتقضم قطعة قطعة، وبالتالي هناك لجان أخرى مختلفة نأمل أن تفعل، وهي للأسف كثيرة ولكنها لا تعمل". ووجه أبو مازن دعوة لهذه اللجان بأن تعمل بشكل جماعي من اجل حماية القدس من التهويد.
وقال أبو مازن، وهو يلقي عبئا ثقيلا عن كتفيه، مخاطبا أعضاء اللجنة "ان لجنتكم التي ترأسها الدكتورة عشراوي، وبعضوية الشاعر الكبير محمود درويش، وشخصيات أخرى هامة، لقادرة على أن تقدم الكثير للقدس، ولثقافتها وعروبتها".
وأضاف أبو مازن انه يضع كل إمكانياته بتصرف اللجنة، وطالبها بالعمل بسرعة وبدون إبطاء، والتعاون مع أية لجان أخرى، من اجل تطوير القدس، وحماية الآثار والمقدسات فيها "حتى تبقى القدس مثلاً ليس كعاصمة ثقافية فقط، بل عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة". ولم يقل أبو مازن لأعضاء اللجنة كيف يمكن أن يحولوا دون تهويد القدس، أو حتى إبطاء ذلك، أو حماية الآثار والمقدسات فيها.
وانتقل أبو مازن، بسرعة إلى الوضع السياسي، والحوار مع الإسرائيليين، وتحدث عن المؤتمر الدولي المزمع عقده في الخريف، وأعرب رئيس السلطة الفلسطينية عن أمله، بأن يتم الوصول إلى صيغة ما، من شأنها تحريك عملية السلام إلى الأمام، معتبرا أن المؤتمر الدولي العتيد سيكون مفصلا سياسيا.
وقال "يجب العمل على الوصول إلى شيء قبل الذهاب إلى المؤتمر، سواء فيما يتعلق بالقدس أو فيما يتعلق بباقي القضايا النهائية، لكن ما أرجوه هو أن تتحرك عملية السلام".
وبعد أن أنهى أبو مازن، كلمته، تحدثت عشراوي، عن المرسوم الرئاسي بتشكيل اللجنة الوطنية للتحضير لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009، وعن تنظيم عمل اللجنة، وكيفية المتابعة "وتنفيذ وتطبيق بنود هذا المرسوم بشكل مهني وسريع وفعال، خاصة وأن الحدث كبير".
وقالت "ان قضية القدس هي القضية الأساسية والمحورية، ونحن ندرك حجم المسؤولية، ويجب أن نعمل مع جميع المؤسسات والفعاليات المدنية والطوعية التي تهتم بالقدس، من أجل عدم ترك المدينة المقدسة تحت الحصار المضاعف والمستمر، من الجدار والمستوطنات والحواجز والعزل والتهويد، ويجب العمل على إزالة آثار التهويد، وتفعيل دورنا في القدس بشكل يرتقي إلى هذا التحدي".
وفي نفس اليوم الذي اجتمع فيه أبو مازن مع اللجنة، أعلن خبير الأراضي خليل التفكجي، بان الاحتلال الإسرائيلي، اكمل بناء معظم الجدار العازل حول القدس، وتمكن من سد جميع الثغرات، ولم يبق إلا قسم بسيط في طريقه إلى الإغلاق.
ولا يمكن أن يقدر أحد حقيقة ما يتحدث عنه التفكجي، إلا إذا كان محاصرا داخل القدس. وهو ما يعني، أن التحديات، التي تحدثت عنها، عشراوي، وقبل ذلك أبو مازن، وغيره من مسؤولين، حقيقية وجادة، وتهدد بشكل واقعي التظاهرة الثقافية العتيدة، إلا إذا عقدت خارج القدس، وهو ما يرجحه الجميع هنا دون أن يعلنوه.
وقال إبراهيم ابراش، وزير الثقافة الحالي، للتلفزيون الرسمي، غداة عقد اللجنة المختصة لاجتماعها الأول، بان "التحديات ستكون كبيرة جدا. ويبقى السؤال إلى أي مدى نستطيع إحياء الحالة الثقافية في القدس، في ظروف تعرضها للتهويد، وإلغاء الثقافة العربية والإسلامية فيها، ان ما يحدث ليست فقط محاولة احتلال ارض ولكن أيضا تغييب الهوية".
وأضاف ابراش "نحتاج إلى قتال ثقافي وسياسي وفكري، الأرض يمكن أن تحتل ولكن الثقافة الوطنية إذا اندثرت من الصعب إعادتها من جديد".
واعتبر ابراش، انه من هذه التحديات، تأتي أهمية إنجاح التظاهرة المقبلة، وطرح تصورا، لتنظيم فعاليات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأيضا في الشتات، وذلك يحتاج إلى تنسيق مع وزراء العرب والسفارات الفلسطينية في الخارج.
وقال ابراش "يجب أن يكون العنوان الأساسي للتظاهرة هو الهوية الوطنية والعربية لمدينة القدس، في السنوات الماضية تم تغييب قضية القدس، انشغلنا بصراعاتنا الداخلية، وهذا أعطى فرصة لإسرائيل لتفعل ما تريد. آن الأوان لنعيد للقدس مكانتها، وهي التي كانت تاريخيا مصدر إشعاع حضاري وفكري، للمسلمين والمسيحيين، وحتى اليهود، وهذه فرصة لرد الاعتبار لها".
واعتبر ابراش أن هذه التظاهرة، "قد تكون مناسبة للشعوب العربية التواقة لفعل شيء لفلسطين بعيدا عن السياسة، الثقافة عنوان لتوحيد الجهود للعمل من اجل القدس، السياسة قد تفرق، ولكن يمكن للثقافة أن توحد، ويمكن للثقافة أن تصلح أخطاء السياسة. وإذا كان العرب يختلفون حول البرامج السياسية، فانهم لن يختلفوا حول القدس".
وهكذا تجري الأمور بين المسؤولين عن الثقافة الفلسطينية، وهم يستعدون للاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية، يتمنون ويأملون، ويفكرون ويتصورون، في ظل واقع فلسطيني صعب، فيه وزارة للثقافة في الضفة الغربية، وأخرى في قطاع غزة، بينما القدس، على ارض الواقع خارج أي ولاية ثقافية، او غير ثقافية، فلسطينية. القدس، التي اتخذتها إسرائيل عاصمة "موحدة وأبدية لها"، متحدية القرارات الدولية.
فقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية في حزيران (يونيو) الماضي، احتفالات تستمر لمدة عام بمناسبة أربعين عاما على احتلال قسمها الشرقي، وتشهد يوميا نشاطات ثقافية وفنية وسياسية ودينية.
القدس يريدها العرب عاصمة ثقافية لهم ولو لمدة عام، من دون أن يعرفوا كيف يفعلون ذلك، بدون تخطيط وتحضير، كما يتضح حتى الآن، حتى أن بعض المثقفين هنا يقولون بأن موافقة وزراء الثقافة العرب على اقتراح الوزير الحماسي، الذي غادر تاركا المركب بما حمل، كان بمثابة ورطة لهم، ربما لا يفكرون كيف يخرجون منها، او لا يعنيهم ذلك، أما بالنسبة للفلسطينيين فإنهم حائرون ماذا يفعلون بها، فشكلوا لجنة.